«فورين بوليسي»: ضحايا «النازية» يعيدون التاريخ ويرتكبون الجرائم نفسها بحق الفلسطينيين
ذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أنه حين أصدر فريق دولي من الباحثين المتخصصين في دراسات الإبادة الجماعية بيانا، يوم الأحد الماضي، يؤكد أن الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ ما يقرب من عامين يرقى إلى تعريف “الإبادة الجماعية”، جاء الرد الإسرائيلي سريعا وغاضبا، فقد وصفت الحكومة الإسرائيلية هذا التوصيف بأنه “مخز” واعتبرته حلقة جديدة فيما تسميه “حملة الأكاذيب” ضدها.
وأشارت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في معرض تعليقها على البيان ـ الذي أيده 86 % من أعضاء المجموعة الأكاديمية- إلى أن المفارقة التي تدعو للسخرية هي أن مصطلح “الإبادة الجماعية” لم يعترف به كجريمة إلا بعد المحرقة النازية التي شهدت القتل المنهجي ليهود أوروبا، وهو ما دفع المدافعين عن إسرائيل للتعبير عن سخطهم من أن شعبا كان ضحية لجرائم النازيين يوصم اليوم بارتكاب أفعال مشابهة.
◄ اقرأ أيضًا | أسامة الشاهد: إغلاق معبر رفح جريمة إنسانية واعتراف إسرائيلي صريح باستخدام التجويع كسلاح سياسي
وأكدت المجلة أن الدرس المأساوي الذي يفرضه واقع غزة اليوم هو أن أي شعب، مهما بلغت فداحة ما تعرض له من مآس في الماضي، ليس بمنأى عن ارتكاب جرائم مشابهة أو أن يسأل عنها مستقبلا، لافتة في هذا الصدد إلى حجم المعاناة والكارثة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة اليوم على أيدي أشخاص (إسرائيليون) عانى أسلافهم من الاضطهاد في الماضي.
وشددت المجلة الأمريكية على أنه رغم هذه الكارثة الإنسانية، إلا أن الكثير من القناعات المترسخة لدى المؤيد والمعارض لتصرفات إسرائيل يصعب تغييرها، إذ إن خطوط الانقسام بين من يدينون إسرائيل ومن يبررون أفعالها باتت أشبه بخنادق عميقة.
ورأت المجلة أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني انفجر مجددا بجريمة تمثلت في هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل، والذي استهدف مدنيين بالقتل والخطف.
لكن تلك الحادثة المروعة لا يمكن أن تبرر العنف شبه العشوائي الذي مارسته إسرائيل بحق سكان غزة منذ ذلك اليوم، كما أن هذه الحادثة لم تكن بداية المأساة الطويلة بين الشعبين؛ فالتاريخ حافل بجولات من العنف والفظائع ارتكبها الطرفان بحق بعضهما، وإن كان ميزان القوة مختلا لصالح إسرائيل على الدوام.
ونوهت “فورين بوليسي” إلى أن أي بصيص أمل اليوم لوقف نزيف الدم والدمار في قطاع غزة مرهون بنداء إلى إنسانية مشتركة.
ورغم أن ذلك قد يبدو ضربا من المثالية البعيدة، إلا أنه كيف يمكن للإسرائيليين أن يشاهدوا مشاهد غزة المروعة ولا يستحضرون ما عاناه اليهود أنفسهم من الجرائم النازية؟ صحيح أن الظروف ليست متطابقة، فالتاريخ لا يكرر نفسه بنفس التفاصيل، لكن حجم المعاناة البشرية واحد.
ودعت المجلة إلى التفكير في المجاعة التي فرضتها إسرائيل على قطاع غزة، والتي صنفتها منظمات دولية باعتبارها مجاعة معترف بها، كما دعت للنظر إلى أطفال غزة وقد تحولت أجسامهم إلى هياكل عظمية، واستدعاء صور الناجين اليهود الهزالي الذين أطلق سراحهم من معسكرات الاعتقال النازية عام 1945.
وواصلت مقارنتها بين مشاهد الماضي والحاضر، بالدعوة إلى تأمل الدمار الهائل في المشهد العمراني لغزة، حيث أحياء كاملة تحولت إلى رماد وأنقاض، وتذكر الأحياء اليهودية التي دمرها النازيون.
وكذلك سكان غزة وهم يجبرون مرارا على حمل ما تبقى من متاعهم والسير على الأقدام، جائعين وعطشى، من منطقة إلى أخرى داخل القطاع بحثا عن مأوى مؤقت، تماما كما هجر النازيون ضحاياهم.
ويجب أيضا النظر إلى الفلسطينيين الذين قتلوا أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع الغذاء النادرة بسبب منع إسرائيل إدخال المساعدات الأممية، حيث إن هذه المشاهد تعيد إلى الأذهان مشاهد الإعدامات والمقابر الجماعية التي ابتلي بها اليهود وغيرهم على يد النازيين؟
وأضافت المجلة الأمريكية أن التعتيم الإعلامي الذي تفرضه إسرائيل على غزة، ومنع الصحفيين الدوليين من الوصول إليها منذ بداية الحرب، يضاهي أسلوب “الكذبة الكبرى” الذي استخدمه النظام النازي لتزييف الحقائق والتحكم في رواية التاريخ.
كما لا يمكن إغفال ما يتردد من تصريحات داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن خطط لاحتلال غزة أو حتى ضمها، فضلا عن تسريبات تتحدث عن مشاريع تطوير عقاري موجهة للأثرياء الإسرائيليين وغيرهم، لا للفلسطينيين.
وتساءلت المجلة الأمريكية: أليست هذه الأفكار انعكاسا لمفهوم “المجال الحيوي” (ليبنسراوم) الذي تبناه النازيون لتبرير توسعهم العسكري وتهجير الشعوب؟.
وترى “فورين بوليسي” أن الكثير من أنصار إسرائيل قد يشعرون بالصدمة من هذه المقارنات، التي لا تحمل أي متعة في إثارتها، لكنها بمثابة مرآة ناصعة ينبغي أن تواجه بها إسرائيل نفسها، خصوصا وهي تصر على تقديم نفسها كدولة ديمقراطية منتمية إلى الغرب.
وأكدت المجلة أنه رغم السيطرة المحكمة التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية على وصول المعلومات من قطاع غزة إلى الداخل الإسرائيلي والتي أسهمت في تقليص إدراك الرأي العام هناك لحجم الكارثة، وسهلت بالتالي خطاب الإنكار والتبرير، إلا أن هناك إشارات ـ وإن كانت محدودة ـ بدأت تتجلى بشأن اتساع الوعي بالمأساة الأخلاقية الجارية، فقد تصاعدت الاحتجاجات داخل إسرائيل ضد استمرار الحرب، وبرزت صعوبات في حشد قوات الاحتياط، كما صدرت تصريحات ناقدة من ضباط متقاعدين لنهج الجيش في القطاع.
غير أن ما يزال مفقودا، ويمثل حاجة ماسة -وفقا للمجلة الأمريكية- هو اعتراف صريح من الإسرائيليين بإنسانية الفلسطينيين في غزة وبحقوقهم الأساسية، وأول هذه الحقوق هي التحرر من العقاب الجماعي الذي يتجسد في حرب تحصد أرواح النساء والأطفال، تحت مبرر “وجود حماس”.
واختتمت المجلة الأمريكية بالتأكيد على أن إنهاء هذه الحرب مسألة أخلاقية عاجلة، ورغم أن الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين أولوية، لكن للفلسطينيين أيضا الحق في حياة آمنة على أرضهم، وهذا ليس مكافأة على ما ارتكبته حركة “حماس” في السابع من أكتوبر، بل هو مطلب بديهي للعدالة، فضلا عن أنه السبيل الوحيد لإغلاق ما وصفته المجلة بـ “كتاب المآسي” الذي يثقل حاضر المنطقة ومستقبلها.