“الاقتصادات الجديدة للسياسة الصناعية” لداني رودريك
بقلم: رجا الخالدي*
في عالم الاقتصاد الديناميكي، من الضروري أن تسعى المجتمعات إلى البحث عن وجهات نظر متنوعة واستكشاف أفكار مبتكرة للتنمية المستدامة. ومن هذا المنطلق، يفخر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) بتقديم محاضرة يوسف الصايغ التنموية الرابعة عشرة، والتي يلقيها الاقتصادي المتميز البروفيسور داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، يوم الأربعاء 18 تشرين الأول 2023، حول “الاقتصادات الجديدة للسياسة الصناعية”.
لقد أصبحت محاضرة يوسف الصايغ التنموية حدثاً مميزاً على مدار الأعوام الثلاثة عشر الماضية، إذ تعرض أفكار ونظريات بعض من أبرز الاقتصاديين في العالم المختصين بالتنمية، ومن الاقتصاديين الفلسطينيين والعرب البارزين كذلك. في هذا العام، فإن استضافة البروفيسور داني رودريك تأتي في نفس السياق الرفيع للمحاضرين السابقين، كما يأتي موضوع محاضرة 2023، حول المفهوم الجديد “للسياسة الصناعية” في منعطف حاسم للتنمية الفلسطينية. بينما نتعامل مع تعقيدات تحدياتنا الفريدة، من الأهمية بمكان أن نواكب وجهات النظر الدولية بشأن الاقتصاد السياسي ونستفيد منها في استكشاف الأفكار التي تتوافق مع تطلعاتنا. هنا نجد أن مفهوم “السياسة الصناعية” نفسه واجه انتقادات، بل اعتبر من قبل التيار الفكري الاقتصادي السائد خلال آخر 30 سنة من العولمة الاقتصادية والتحرير التجاري، من بين المحرمات العائدة لعصر سابق من إدارة التنمية التي اعتبرت غير منتجة وغير منافسة وغير مجدية.
ما هو مثير في هذا الشأن أن رحلة رودريك الفكرية خلال تلك الفترة كانت تحاكي التغيير الكبير في نظرة علماء الاقتصاد لهذه المسألة، حيث دخل العالم في العقد الثاني من هذا القرن في إعادة الاعتبار للسياسات الصناعية (منها ما يلقب بالحمائية) في اقتصاد عالمي غير متكافئ وغير متوازن.
أحد المفاهيم الأساسية التي طرحها البروفيسور رودريك، أن السياسات والإجراءات التي تتخذها الدول بشكل منفرد لها أهمية كبيرة في سعيها لتحقيق التنمية الاقتصادية. وبدلاً من التركيز فقط على الظروف الخارجية، يؤكد رودريك على دور الأمم في تشكيل مصيرها الاقتصادي. ويحمل هذا المنظور أهمية خاصة بالنسبة لفلسطين ونحن نسير في طريقنا نحو تقرير المصير والنمو المستدام.
علاوة على ذلك، يقدم نقد رودريك للعولمة رؤى قيّمة حول المخاطر والفوائد المحتملة المرتبطة بالتكامل الاقتصادي. ومن خلال تحليله، يسلط الضوء على أهمية الموازنة بين الانفتاح والأولويات الاقتصادية الوطنية، وضمان أن تعمل العولمة لصالح جميع المواطنين. ينسجم هذا الفحص النقدي مع التجربة الفلسطينية، حيث نسعى جاهدين للتغلب على تعقيدات العلاقات الاقتصادية الدولية مع الحفاظ على مصالحنا وتطلعاتنا الوطنية.
بالنظر إلى المستقبل، فإن تحليل البروفيسور رودريك للنظام العالمي المستقبلي يقدم لنا اعتبارات قيّمة فيما يتعلق بالمشهد الجيوسياسي المتطور وتأثيره المحتمل على منطقتنا. وبينما نستكشف المسارات نحو السيادة الاقتصادية وتعزيز التعاون الإقليمي، فإن أفكاره ستساهم بلا شك في فهمنا للسياق الأوسع الذي نعمل ضمنه.
وليس داني رودريك أول كبار الاقتصاديين الذين راجعوا تفكيرهم (وضمائرهم!؟) ليغيروا عقيدتهم الاقتصادية – مما يسمى “السّنة” الاقتصادية التقليدية (orthodoxy) – إلى مواقف نظرية أكثر تعددية وأكثر انتقاداً لإخفاقات هذه السّنة التقليدية (heterodox)، حيث سبقه في ذلك علماء اقتصاد كبار، مثل: جوزيف ستيغليتز، وجفري ساكس، الذين تبرؤا تقريباً من الفكر الاقتصادي للمؤسسات التي تبوؤا فيها مناصب رفيعة، أي البنك وصندوق النقد الدوليَّين.
عند سؤاله من قبل مجلة جامعته هارفارد، وهي من بين قلاع السنة الاقتصادية، في 2022 حول تعريفه لمفهوم “الليبرالية الجديدة” الشائك، أجاب رودريك بما يعكس مساره النقدي ومسار العلم الاقتصادي الذي يقف في مقدمته، قائلاً:
ربما يكون الاقتصاديون هم الأقل استخداماً لمصطلح الليبرالية الجديدة. حتى أنا نفسي قاومت الكتابة عن الليبرالية الجديدة في حد ذاتها أو استخدام هذا المصطلح لفترة طويلة جداً. أعتقد أن أول مقال حقيقي لي عن الليبرالية الجديدة كان قبل خمس سنوات، حيث كتبت مقالاً لمجلة “بوسطن ريفيو” بعنوان “إنقاذ الاقتصاد من الليبرالية الجديدة”. ربما كنت قد استخدمت هذا المصطلح بشكل مقتصد قبل ذلك، لكنني لم أكن مرتاحاً له مطلقاً.
في نهاية المطاف، توصلت إلى الاعتقاد بأن هذا يعكس إطاراً ذهنياً معيناً. وسواء أطلقنا عليها أصولية السوق، أو الليبرالية الجديدة، أعتقد أنها، بشكل عام، نوع من الإيمان الزائد بما يمكن للأسواق تحقيقه، وعجز مفرط في الخيال فيما يتعلق بماهية العمل الجماعي – سواء كان ذلك من جانب الحكومة باعتبارها وكيلنا أو من جانب المنظمات المدنية أو المجتمع – وما الذي يمكن أن يحققه العمل الجماعي؟ لذا فهي رؤية مشوهة للغاية للمجتمع حيث تدور جميعها حول المعاملات الاقتصادية الفردية وقدسية تلك المعاملات، بالإضافة إلى حل معاملات السوق اللامركزية لجميع مشاكلنا ليس فقط الاقتصادية ولكن أيضاً لمشاكلنا الاجتماعية والسياسية.
يذكر أن رودريك يشغل حالياً منصب رئيس الرابطة الاقتصادية الدولية، والمدير المشارك لمؤسسة الاقتصاد من أجل الرخاء الشامل. أحدث كتبه “مكافحة عدم المساواة: إعادة النظر في دور الحكومة” (2021، تم تحريره مع أوليفييه بلانشارد) و”الحديث الصريح عن التجارة: أفكار لاقتصاد عالمي عاقل”. تتمحور أبحاث رودريك الحالية حول العولمة والنمو الاقتصادي والتنمية والاقتصاد السياسي. يركز عمله الحالي على كيفية إنشاء اقتصادات أكثر شمولاً في المجتمعات المتقدمة والنامية. إن رؤى رودريك – بما في ذلك كتابه الشهير “مفارقة العولمة” – ذات قيمة هائلة للسياق الفلسطيني.
____________
* مدير عام معهد “ماس”.